انشغلت في الأسابيع الأخيرة بتتبع تراث الخطاط ياقوت المستعصمي (ت 698هـ)، والنظر فيه، وشمل ذلك عدداً من المصاحف التي كتبها، وعدداً من الكتب التي نسخها، وامتازت تلك الأعمال بجمال الخط ، وبدقة الضبط الذي شمل جميع حروف الكلمة، ويظهر ذلك في المصاحف وفي الكتب على حد سواء.
فمن الكتب التي نسخها ياقوت المستعصمي كتاب (المنهاج الجلي في شرح مقدمة الجزولي في النحو) ، وهو مؤرخ بسنة 654هـ ، والموجود منه المجلد الثاني، وهو محفوظ في مكتبة لاله لي برقم (3450)، وهذه صورة صحيفة منه :
وحافظ ياقوت المستعصمي على تمكنه من كتابة الخط الجيد، وعنايته بالضبط الكامل لما يكتبه ، ويمكن التمثيل لذلك بالمصحف الذي كتبه سنة 694هـ ، بعد أربعين سنة من كتابته لكتاب (المنهاج الجلي) ، وقبل أربع سنوات من تاريخ وفاته، رحمه الله، وهو مخطوط في مكتبة نور عثمانية (برقم 22)، وهذه صورة خاتمة ذلك المصحف :
وذَكَرَ المؤرخون الذين كتبوا في سيرته، وتحدثوا عن خصائص خطه، أنه قد كَثُرَ تقليد خطه وانتحالُ أعمالٍ ونسبتها إليه ، وهو ما يبعث الشك لدى الدارسين في الأعمال المنسوبة إليه، وصعوبة تمييز المنحول من الأصيل، ولَفَتَ نظري وأنا أقرأ في عدد من الأعمال التي نُسِبَتْ إليه بعض الظواهر الإملائية ، يمكن أن تكون دليلاً في التمييز بين الأصيل والمنحول، في غير المصاحف التي كتبها في الأقل، ولعل الإدمان على القراءة في أعمال ياقوت يكشف عن ظواهر أخرى تساعد في حصر خصائص كتاباته الفنية والإملائية ، حتى يسهل على الدارسين تمييز أعماله الأصلية من الزائفة.
فمما لَفَتَ نظري في كتابات ياقوت في غير المصحف، حَذْفُهُ لِمَا يُسَمَّى بالألف الفارقة، وهي التي تُكْتَبُ بعد واو الجماعة الواقعة في آخر الأفعال، في مثل: كَتَبُوا، ولم يَكْتُبُوا، من ذلك ما ورد في كتاب مشارق الأنوار النبوية ، للصغاني ، وهو محفوظ في مكتبة أياصوفيا برقم (899)، وهذه صورة عنوانه :
فقد وَقَفْتُ فيه على هذه الأمثلة للظاهرة :
،
ومن ذلك ما ورد في كتاب (المنهاج الجلي في شرح مقدمة الجزولي) الذي تقدم ذكره:
وفي ديوان الحادرة بخط ياقوت المحفوظ في مكتبة أياصوفيا برقم (3932): (قولو، إذا كرهو )، وفي مقدمة ديوان أبي محجن الثقفي صنعة أبي هلال العسكري، المحفوظ في مكتبة أياصوفيا برقم (3881):
وإذا كان ذلك مذهباً لياقوت التزم به في جميع ما كَتَبَ فقد يمكن تمييز الأصيل من كتاباته من المزيف، من خلال ذلك.
ففي كتاب (منازل السائرين إلى الحق سبحانه) ، تأليف الشيخ عبد الله بن محمد الأنصاري ، المحفوظ في مكتبة أياصوفيا برقم (2101)، جاءت تلك الألف مثبتة بعد الواو التي هي لام الفعل، أو ضمير الجماعة، فمثال ما كانت فيه الواو لام الفعل: (وارجوا، تصفوا، يدعوا )، ومثال ما كانت فيه الواو ضمير الجماعة: (سيروا، قالوا، أن يبلغوا )، وقد يدل ذلك على عدم صحة نسبة الكتاب إلى ياقوت، فقد جاء في آخر الكتاب ما نصه :
وإذا أضفنا إلى ذلك ما اعتاده ياقوت من كتابة تاريخ الفراغ من كل كتاب أو مصحف كتبه ، وما في النسخة من أخطاء في الضبط في بعض المواضع، تتنافى ومنزلة ياقوت في علم العربية، وهي ليست من المؤلف قطعاً ، تأكدت الشبهة في عدم صحة نسبة كتابة الكتاب إليه، والله أعلم.
هذه خاطرة سريعة أحببت أن أنقلها لكم ، لعلها تثير الشوق في نفوسكم للنظر في كتابات ياقوت المستعصمي ، فَتُمَتِّعُوا عيونكم بجمالها ، وتُرَوِّحُوا قلوبكم بمضامينها.
***
أربيل - العراق